تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 297 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 297

297 : تفسير الصفحة رقم 297 من القرآن الكريم

** وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس {لا مبدل لكلماته} أي لا مغير لها ولا محرّف ولا مزيل. وقوله: {ولن تجد من دونه ملتحد} عن مجاهد ملتحداً قال: ملجأ. وعن قتادة: ولياً ولا مولى. قال ابن جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك, فإنه لا ملجأ لك من الله, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وقال: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
وقوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً, من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء, أو أقوياء أو ضعفاء,يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم, وحده, ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه, كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود, وليفرد أولئك بمجلس على حدة, فنهاه الله عن ذلك فقال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الاَية, وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء, فقال {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الاَية, وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال, ورجلان نسيت اسميهما, فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشاء الله أن يقع, فحدث نفسه, فأنزل الله عز وجل {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قص, فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب». وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس, وكان قاص العامة بالكوفة, يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب» قال شعبة: فقلت أي مجلس ؟ قال: كان قاصاً.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد, حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس, ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً» فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس, فبلغت ستة وتسعين ألفاً وههنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل, والله ما قال إلا ثمانية, دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم», هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت, عن علي بن الأقمر, عن الأغر مرسلاً. وحدثنا يحيى بن المعلى عن المنصور, حدثنا محمد بن الصلت, حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر, عن الأغر أبي مسلم, عن أبي هريرة وأبي سعيد, قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجّ, أو سورة الكهف, فسكت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر, حدثنا ميمون المرئي, حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات» تفرد به أحمد رحمه الله. وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد, عن أبي حازم, عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الاَية, فخرج يتلمسهم, فوجد قوماً يذكرون الله تعالى, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد, فلما رآهم جلس معهم وقال: «الحمد الله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم» عبد الرحمن هذا, ذكره أبو بكر ابن أبي داود في الصحابة. وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله {ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدني} قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم, يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة, {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرن} أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا, {وكان أمره فرط} أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع, ولا تكن مطيعاً ولا محباً لطريقته, ولا تغبطه بما هو فيه, كما قال: {ولاتمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى}.

** وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد, ولهذا قال: {إنا أعتدن} أي أرصدنا {للظالمين} وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه {ناراً أحاط بهم سرادقه} أي سورها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لسرادق النار أربعة جدر, كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة» وأخرجه الترمذي في صفة النار, وابن جرير في تفسيره, من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس: {أحاط بهم سرادقه} قال: حائط من نار. قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية, حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى, عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر هو جهنم» قال: فقيل له كيف ذلك ؟ فتلا هذه الاَية, أو قرأ هذه الاَية {ناراً أحاط بهم سرادقه}ثم قال «والله لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة» وقوله {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} الاَية, قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت, وقال مجاهد: هو كالدم والقيح. وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره. وقال آخرون: هو كل شيء أذيب. وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود, فلما انماع وأزبد, قال: هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك: ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود, وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الاَخر, فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها, فهو أسود منتن غليظ حار, ولهذا قال: {يشوي الوجوه} أي من حره, إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه» وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث, عن دراج به, ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين, وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا, قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب, عن ابن لهيعة, عن دراج, والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد: عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر, عن أبي أمامة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه}, قال: «يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه, يقول الله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب}. وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا, فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها, فاجتثت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم, لعرف جلود وجوههم فيها, ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون, فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره, فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود, ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة {بئس الشراب} أي بئس هذا الشراب, كما قال في الاَية الأخرى {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} وقال تعالى: {وتسقى من عين آنية} أي حارة, كما قال تعالى: {وبين حميم آن} {وساءت مرتفق} أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق, كما قال في الاَية الاَخرى {إنها ساءت مستقراً ومقام}.

** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
لما ذكر تعالى حال الأشقياء, ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن, والعدن: الإقامة, {تجري من تحتهم الأنهار} أي من تحت غرفهم ومنازلهم, قال فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} الاَية, {ويحلون} أي من الحلية {فيهامن أساور من ذهب} وقال في المكان الاَخر {ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} وفصله ههنا, فقال {ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق} فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: {متكئين فيها على الأرائك} الاتكاء قيل الاضطجاع, وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد ههنا, ومنه الحديث الصحيح «أما أنا فلا آكل متكئاً», فيه القولان: والأرائك جمع أريكة, وهي السرير تحت الحجلة, والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناة, والله أعلم. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة {على الأرائك} قال: هي الحجال, قال معمر وقال غيره: السرر في الحجال.
وقوله: {نعم الثواب وحسنتت مرتفق} أي نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم وحسنت مرتفقاً, أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار {بئس الشراب وساءت مرتفق} وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إنها ساءت مستقراً ومقام}, ثم ذكر صفات المؤمنين, فقال {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً خالدين فيها حسنت مستقراً ومقام}.